وكان أبو جهل يجئ أحياناً إلى رسول الله يسمع منه القرآن ، ثم يذهب عنه فلا يؤمن ولا يطيع ، ولا يتأدب ولا يخشى ويؤذي رسول الله بالقول ويصد عن سبيل الله ثم يذهب مختالاً بما يفعل فخوراً بما ارتكب من الشر ، كأنما فعل شيئاً يذكر ، وفيه نزل فلا صدق ولا صلى إلخ .. وكان يمنع النبي عن الصلاة منذ أول يوم رآه يصلي في الحرم ، ومرة مر به وهو يصلي عند المقام فقال : يا محمد ألم أنهك عن هذا ، وتوعده فأغلظ له رسول الله وانتهره . فقال : يا محمد بأي شيء تهددني ؟ أما والله إني لأكثر هذا الوادي نادياً . فأنزل فليدع ناديه وفي رواية أن النبي أخذ بخناقة ، وهزه وهو يقول له : أولى لك فأولى . ثم أولى لك فأولى فقال عدو الله : أتوعدني يا محمد ؟ والله لا تستطيع أنت ولا ربك شيئاً وإني لأعز من مشى بين جبليها .
ولم يكن أبو جهل ليفيق من غباوته بعد هذا الانتهار بل ازداد شقاوة فيما بعد .
أخرج مسلم عن أبي هريرة قال : قال أبو جهل : يعفر محمد وجهه بين أظهركم ؟ فقيل : نعم ! فقال : واللات والعزى ، لئن رأيته لأطأن على رقبته ولأعفرن وجهه ، فأتى رسول الله وهو يصلي ، زعم ليطأ رقبته ، فما فجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه ، فقالوا : مالك يا أبا الحكم ؟ قال : إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهؤلاء أجنحة ، فقال رسول الله : لو دنا مني لا ختطفته الملائكة عضواً عضواً .
كانت هذه الاعتداءات بالنسبة إلى النبي مع ما لشخصيته الفذة من وقار وجلال في نفوس العامة والخاصة ، ومع ما له من منعة أبي طالب أعظم رجل محترم في مكة ، أما بالنسبة إلى المسلمين - ولا سيما الضعفاء منهم - فإن الإجراءات كانت أقسى من ذلك وأمر ، ففي نفس الوقت قامت كل قبيلة تعذب من دان منها بالإسلام أنواعاً من التعذيب ، ومن لم يكن له قبيلة فأجرت عليهم الأوباش والسادات ألواناً من الاضطهاد ، يفزع من ذكرها قلب الحليم .
كان أبو جهل إذا سمع برجل أسلم له شرف ومنعة أنبه وأخزاه ، و أوعده بإبلاغ الخسارة الفادحة في المال ، والجاه ، وإن كان ضعيفاً ضربه وأغرى به .
وكان عم عثمان بن عفان يلفه في حصير من أوراق النخيل ثم يدخنه من تحته .. ولما علمت أم مصعب بن عمير بإسلامه أجاعته وأخرجته من بيته ، وكان من أنعم الناس عيشاً فتخشف جلده تخشف الحية .
وكان بلال مولى أمية بن خلف الجمحي ، فكان أمية يضع في عنقه حبلاً ، ثم يسلمه إلى الصبيان ، يطوفون به في جبال مكة ، حتى كان يظهر أثر الحبل في عنقه ، وكان أمية يشده شداً ثم يضربه بالعصا ، وكان يلجئه إلى الجلوس في حر الشمس ، كما كان يكرهه على الجوع ، وأشد من ذلك كله أنه كان يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه في بطحاء مكة ، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ، ثم يقول : لا والله لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد ، وتعبد اللات والعزى . فيقول - وهو في ذلك - أحد ، أحد ، حتى مر به أبو بكر يوماً وهم يصنعون ذلك به ، فاشتراه بغلام أسود ، وقيل بسبع أواق أو بخمس من الفضة وأعتقه . وكان عمار بن ياسر رضي الله عنه مولى لبني مخزوم ، أسلم هو وأبوه وأمه ، فكان المشركون - وعلى رأسهم أبو جهل - يخرجونهم إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء فيعذبونهم بحرها . ومر بهم النبي وهم يعذبون فقال : صبراً آل ياسر ! فإن موعدكم الجنة ، فمات ياسر في العذاب ، وطعن أبو جهل سمية _ أم عمار _ في قلبها بحربة فماتت ، وهي أول شهيدة في الإسلام ، وشددوا العذاب على عمار بالحر تارة ، وبوضع الصخر أحمر على صدره أخرى ، وبالتغريق أخرى . وقالوا : لانتركك حتى تسب محمداً ، أو تقول : في اللات والعزى خيراً ، فوافقهم على ذلك مكرهاً ، وجاء باكياً معتذراً إلى النبي ، فأنزل الله من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان
وكان أبو فكيهة _ واسمه أفلح _ مولى لبني عبد الدار ، فكانوا يشدون برجله الحبل ، ثم يجرونه على الأرض .
وكان خباب بن الأرت مولى لأم أنمار بنت سباع الخزاعية ، فكان المشركون يذيقونه أنواعاً من التنكيل ، يأخذون بشعر رأسه فيجذبونه جذباً ، ويلوون عنقه تلوية عنيفة وأضجعوه مرات عديدة على فهام ملتهبة ، ثم وضعوا عليه حجراً ، حتى لا يستطيع أن يقوم .
وكانت زنيرة والنهدية وابنتها وأم عيسى إماء أسلمن وكان المشركون يسومونهن من العذاب أمثال ما ذكرنا . واسلمت جارية لبني مؤمل _ وهم حي من بني عدي _ فكان عمر بن الخطاب _ وهو يومئذ مشرك _ يضربها حتى إذا مل قال : إني لم اترك إلا ملالة .
وابتاع أبو بكر هذه الجواري فأعتقهن كما أعتق بلالاً وعامر بن فهيرة وكان المشركون يلفون بعض الصحابة في إهاب الإبل والبقر ثم يلقونه في حر الرمضاء ويلبسون بعضاً أخر درعاً من الحديد ثم يلقونه على صخرة ملتهبه .. وقائمة المعذبين في الله طويلة جداً فما من أحد علموا بإسلامه إلا تصدوا له وآذوه .