وبعد فشل قريش وخيبتهم في الوفادتين عادوا إلى ضراوتهم وتنكيلهم بأشد مما كان قبل ذلك ، وخلال هذه الأيام نشأت في طغاتهم فكرة إعدامه بطريق أخرى وكانت هذه الفكرة وتلك الضراوة هي التي سببت في تقوية الإسلام ببطلين جليلين من أبطال مكة ، وهما حمزة بن عبدالمطلب ، وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
فمن تلك الضراوة أن عتيبة بن أبي لهب أتى يوماً إلى رسول الله فقال : أنا أكفر بـ النجم إذا هوى و بالذي دنا فتدلى ثم تسلط عليه بالأذى وشق قميصه وتفل في وجهه إلا أن البزاق لم يقع عليه وحينئذ دعا عليه النبي وقال . اللهم سلط عليه كلباً من كلابك ، وقد استجيب دعاؤه فقد خرج عتيبة مرة في نفر من قريش حتى نزلوا في مكان من الشام فغدا عليه الأسد من بين القوم وأخذ برأسه فذبحه .
ومنها ما ذكر أن عقبة بن أبي معيط وطئ على رقبته الشريفه وهو ساجد حتى كادت عيناه تبرزان .
ومما يدل على أن طغاتهم كانوا يريدون قتله ما رواه ابن إسحاق في حديث طويل ، قال : قال أبو جهل :
يا معشر قريش إن محمداً قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا ، وشتم آبائنا ، وتسفيه أحلامنا ، وشتم آلهتنا ، وإني أعاهد الله لأجلسن له بحجر ما أطيق حمله ، فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه ، فأسلموني عند ذلك أو أمنعوني فليصنع بعد ذلك بنو بعد مناف ما بدا لهم ، قالوا : والله لا نسلمك لشيء أبداً فامض لما تريد .
فلما أصبح أبو جهل أخذ حجراُ كما وصف ، ثم جلس لرسول الله ينتظره وغدا رسول الله كما كان يغدو فقام يصلي ، وقد غدت قريش فجلسوا في أنديتهم ، ينتظرون ما أبو جهل فاعل ـ فلما سجد رسول الله ، احتمل أبو جهل الحجر ، ثم أقبل نحوه ، حتى إذا دنا منه رجع منهزماً منتقعاً لونه ، مرعوباً قد يبست يداه على حجره ، حتى قذف الحجر من يده وقامت إليه رجال قريش فقالوا له : مالك يا أبا الحكم ؟ قال : قمت إليه لأفعل به ما قلت لكم البارحة ، فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل ، لا والله ما رأيت مثل هامته ، ولا مثل قصرته ولا أنيابه لفحل قط ، فهمّ بي أن يأكلني .
قال ابن إسحاق : فذكر لي أن رسول الله قال : ذلك جبريل عليه السلام لو دنا لأخذه .
وبعد ذلك فعل أبو جهل برسول الله ما أدى إلى إسلام حمزة رضي الله عنه وسيأتي .
أما طغاة قريش فلم تزل فكرة إعدام تنضج في قلوبهم ، روى ابن إسحاق عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : حضرتهم وقد اجتمعوا في الحجر ، فذكروا رسول الله ، فقالوا : ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل ، لقد صبرنا منه على أمر عظيم ، فبينا هم كذلك ، إذ طلع رسول الله فأقبل يمشي حتى استلم الركن ، ثم مر بهم طائفاً بالبيت ، فغمزوه ببعض القول ، فعرفت ذلك في وجه رسول الله ، فلما مرّ بهم الثانية غمزوه بمثلها فعرفت ذلك في وجهه ، ثم مرّ بهم الثالثة فغمزوه بمثلها ، فوقف ثم قال : أتسمعون يا معشر قريش ، أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح ، فأخذت القوم كلمته ، حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع حتى إن أشدهم فيه ليرفؤه بأحسن ما يجد ، ويقول : انصرف يا أبا القاسم ، فو الله ما كنت جهولاً.
فلما كان الغد اجتمعوا كذلك يذكرون أمره إذ طلع عليهم ، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد وأحاطوا به ، فلقد رأيت رجلاً منهم أخذ بمجمع ردائه ، وقام أبو بكر دونه وهو يبكي ويقول : أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله ؟ ثم انصرفوا عنه . قال ابن عمرو: فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشاً نالوا منه قط . انتهى ملخصاً .
وفي رواية البخاري عن عروة بن الزبير قال : سألت ابن عمرو بن العاص أخبرني بأشد شئ صنعه المشركون بالنبي قال : بينا النبي يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط ، فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً ، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبيه ودفعه عن النبي وقال : أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله ؟
وفي حديث أسماء : فأتى الصريخ إلى أبي بكر ، فقال : أدرك صاحبك ، فخرج من عندنا ، وعليه غدائر أربع ، فخرج وهو يقول : أتقتلون رجلاً أن يقول : ربي الله ؟ فلهوا عنه ، وأقبلوا على أبي بكر ، فرجع إلينا لا نمس شيئاً من غدائره إلا رجع معنا.